كيف تدير الشركات البصمة الكربونية لتحقيق الاستدامة بكفاءة؟

كيف تدير الشركات البصمة الكربونية لتحقيق الاستدامة بكفاءة؟

 

 

الإدارة الفعّالة للبصمة الكربونية لتحقيق استدامة الشركات

 

يواجه العالم اليوم أزمة مناخية غير مسبوقة بسبب ارتفاع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، في عالمٍ يسابق الزمن لإنقاذ كوكبه، أصبحت البصمة الكربونية أكثر من مجرد مصطلح بيئي؛ إنها مرآة تكشف أثر كل شركة على المناخ. فوفقًا لتقرير  Global Carbon Projectلعام 2024، تجاوزت الانبعاثات العالمية من ثاني أكسيد الكربون 40.8  مليار طن متري، وهو رقم صادم يعكس حجم التحدي الذي يواجهه العالم الصناعي. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن قطاع الأعمال وحده مسؤول عن نحو 70% من الانبعاثات العالمية، مما يجعل الشركات في قلب المعركة ضد تغيّر المناخ. كما تشير التقارير إلى أن أكبر ثلاث دول (الصين، الولايات المتحدة والهند) تمثل معًا أكثر من نصف هذه الانبعاثات العالمية.

تؤثّر هذه الانبعاثات في الاحترار العالمي وزيادة الكوارث المناخية (مثل حرائق الغابات والعواصف الشديدة وارتفاع مستوى البحار). ومع ازدياد الوعي البيئي وضغوط المستهلكين والمستثمرين، أصبحت إدارة البصمة الكربونية (Carbon Footprint Management) ضرورة استراتيجية للشركات. إذ تُمكّن الشركات من حساب انبعاثاتها الكربونية بدقة ومعالجتها. وبحسب الخبراء، فإن تطبيق خطة محكمة لإدارة البصمة الكربونية يساعد الشركات على خفض التكاليف التشغيلية والالتزام بالمعايير التنظيمية، بالإضافة إلى تحسين صورة الشركة وسمعتها لدى العملاء والمستثمرين المهتمين بالاستدامة.

فالواقع الجديد يفرض على الشركات مسؤولية لا يمكن تجاهلها: لم يعد السؤال هل يجب خفض الانبعاثات؟ بل كيف وبأي سرعة؟ فالمستهلكون والمستثمرون اليوم أكثر وعيًا من أي وقت مضى، والشفافية البيئية أصبحت معيارًا للتنافسية والاستدامة. وفي هذا السياق، تمثل إدارة البصمة الكربونية نقطة البداية لأي مؤسسة تتطلع لأن تكون جزءًا من الحل لا المشكلة.

هذه المقالة تسعى لتقديم رؤية عملية ومستنيرة حول كيفية إدارة البصمة الكربونية في الشركات: من الفهم الدقيق للمفهوم، إلى طرق الحساب الموثوقة، مرورًا بأفضل استراتيجيات التخفيض، ووصولًا إلى تجارب عالمية ناجحة ألهمت قطاع الأعمال حول العالم. هنا ستجد دليلًا متكاملًا يساعد شركتك على التحول من الاستهلاك المفرط إلى الاستدامة الذكية، استدامة تربط بين الربح والمسؤولية، وتضع الإنسان والكوكب في قلب القرار.

 

ما هي إدارة البصمة الكربونية؟

إدارة البصمة الكربونية هي باختصار عملية قياس وإبلاغ وتقليل إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة الصادرة عن نشاط الشركة ومنتجاتها. وتشمل هذه العملية استخدام معايير مثل بروتوكول غازات الدفيئة GHG Protocol  وتحديد فئات الانبعاثات الرئيسية Scopes  والإبلاغ عن النتائج بشفافية. وتساعد الإدارة الفعّالة للبصمة الكربونية الشركات على وضع أهداف للحياد الكربوني (Net-Zero) وتعزيز كفاءتها التشغيلية والابتعاد عن المخاطر البيئية والتشريعية مستقبلًا.

 

كيف تقوم الشركات بحساب بصمتها الكربونية خطوة بخطوة؟

لحساب البصمة الكربونية لمؤسسة ما، تتبع الشركات عمومًا الخطوات التالية:

1.     تحديد مصادر الانبعاثات: تصنّف الانبعاثات وفقًا لبروتوكول غازات الدفيئة إلى ثلاث فئات  (Scpoe 1, 2, 3).

o       النطاق 1 (Scope 1) : يشمل الانبعاثات المباشرة التي تنبعث من مصادر تملكها الشركة أو تتحكم فيها (مثل حرق الوقود في مولدات الكهرباء الخاصة أو مصفاة داخلية واستهلاك وقود السيارات المملوكة للشركة).

o       النطاق 2 (Scope 2): يشمل الانبعاثات غير المباشرة المرتبطة بالكهرباء أو التدفئة/التبريد المشتراة، أي الانبعاثات المولدة في محطات الطاقة التي تزود الشركة بالطاقة.

o       النطاق 3 (Scope 3): يشمل باقي الانبعاثات غير المباشرة التي تحدث في سلسلة القيمة الأوسع للشركة (سواءً صعودًا مع الموردين أو نزولًا مع المستخدمين النهائيين)، مثل نقل المواد الخام والنفايات المرسلة للخردة واستخدام المنتجات من قبل العملاء . يُذكر أن غالبية انبعاثات الشركة غالبًا تكون في النطاق 3 (سلسلة الإمداد)، ولذلك يُعتبر إشراك الموردين والعملاء في التخفيض مهم جداً.

2.     جمع البيانات: بعد تعريف مصادر الانبعاثات، تجمع الشركة بيانات النشاط المتعلقة بكل مصدر. على سبيل المثال، تجمع الشركة كمّيات الوقود المُشتراة (باللتر أو الجالون)، وعدد الكيلومترات المقطوعة بالمركبات، واستهلاك الكهرباء شهريًا، وكميات المواد الخام أو النفايات وغيرها، غالبًا ما تستخدم الشركات فواتير الخدمات (كهرباء، غاز)، وسجلات الوقود والمشتريات، وأجهزة قياس ذكية لجمع البيانات بدقة. يساعد بناء قاعدة بيانات منظمة لكل نشاط في متابعة الانبعاثات ومراقبة التقدم بمرور الوقت.

3.     تطبيق عوامل الانبعاث: لكل نشاط يتم اختياره، تستخدم الشركة ما يُعرف بعامل الانبعاث (Emission Factor)  لتحويل وحدات النشاط إلى مقدار انبعاثات مكافئ  CO. على سبيل المثال، قد يكون عامل الانبعاث الخاص بالكهرباء المنتجة في الشبكة المحلية 0.5 كيلوجرام  COلكل كيلووات-ساعة. فإذا استهلكت الشركة 10,000 كيلووات-ساعة من الكهرباء، تكون الانبعاثات الناتجة = 10,000 × 0.5 5000=  كيلوجرام .CO ويُنصح باستخدام عوامل انبعاث موثوقة محدثة (مثل عوامل وزارة البيئة أو وكالات الطاقة) لضمان الدقة.

4.     الحساب الإجمالي والتقارير: بعد تحويل كل نشاط انبعاثاته باستخدام العوامل المناسبة، تجمع الشركة النتائج للوصول إلى إجمالي الانبعاثات السنوية (بطن  COe ). غالبًا ما تُصنف هذه النتيجة حسب Scope 1 و2 و3 لتوضيح المساهمة النسبية لكل فئة. ثم تُدرج الشركة هذا المحاسب الكربوني ضمن تقارير الاستدامة السنوية أو تقارير ESG الخاصة بها لتوضيح التزامها وخطواتها المستقبلية.

 

هذه العملية الاستراتيجية (قياس ونشر وتقليل) تساعد الشركات على إتخاذ قرارات مبنية على بيانات حقيقية بشأن ترشيد الطاقة أو الاستثمار في التكنولوجيا النظيفة أو اختيار الموردين الأقل انبعاثًا. فتحديد البصمة الكربونية بدقة هو الخطوة الأولى نحو تقليلها.

 

ما هي أفضل الطرق للتخفيف من البصمة الكربونية؟

بعد قياس البصمة الكربونية وحسابها، تأتي مرحلة اتخاذ التدابير الفعلية للتقليل منها. تتنوع الإستراتيجيات باختلاف القطاع ونوع النشاط، لكن هناك إجراءات أثبتت فعاليتها عبر العديد من التجارب العالمية:

·        التحول إلى الطاقة المتجددة: الاستثمار في مصادر الطاقة النظيفة (كالكهرباء الشمسية والرياح) يخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري المرتفع التكلفة والمنبعِث للانبعاثات. يمكن للشركات شراء كهرباء صديقة بيئيًا من مزوّدي طاقة متجددة (Green Power)، أو تركيب محطات شمسية أو توربينات رياح في مواقعها. مثلاً، توصي الخبراء بالدخول في عقود شراء طويلة الأجل للطاقة المتجددة (PPAs) أو شراء شهادات الطاقة المتجددة (RECs) كوسائل لتعويض الانبعاثات وتقليل الـ Scope 2. ويشير تقرير مونتيل إلى أن الاستثمار بالطاقة المتجددة يؤثر بشكل كبير على انبعاثات الشركة (لا سيما Scope 2 ، وينصح الشركات بتشجيع مورديها على فعل الشيء نفسه لخفض انبعاثات النطاق 3.

·        زيادة كفاءة الطاقة: تحسين استهلاك الطاقة داخل المنشأة، مثل ترقية الإضاءة إلى مصابيح LED موفرة، واستبدال أنظمة التدفئة والتكييف بأنظمة عالية الكفاءة، يقلل من الانبعاثات ويوفر في التكاليف. على سبيل المثال، اعتمدت شركة Apple على تقنيات إضاءة وتبريد صناعية عالية الكفاءة، الأمر الذي ساهم في تقليل استهلاكها للطاقة بشكل ملحوظ. كما يمكن عزل المباني حراريًا وتحسين الصيانة الدورية لتجهيزات الطاقة لتجنب الهدر. كل خطوة في هذا الاتجاه تؤدي إلى تقليل كبير في الـ Scope 1 و2 وكذا إلى تقليل فاتورة الطاقة.

·        إدارة النفايات والتدوير (الاقتصاد الدائري): تبني مبدأ "التقليل ثم التدوير" يساعد على خفض الانبعاثات المتعلقة بإنتاج المواد الخام والتخلص من النفايات. فوفق ترتيب إدارة النفايات الهرمي (Waste Hierarchy)، تأتي الوقاية في المقام الأول ثم إعادة الاستخدام ثم التدوير بحيث يكون التخلص كخيار أخير. من الأمثلة العملية: تصميم المنتجات بحيث تستخدم أقل قدر ممكن من المواد الضرورية، وتشجيع إعادة استخدام المواد ودمج المعدن المعاد تدويره في التصنيع. يوضح الخبراء أن الاقتصاد الدائري يعزّز كفاءة الموارد ويقلص الانبعاثات الناتجة عن الإنتاج والتخلص.

·        خفض الانبعاثات في سلسلة التوريد: كثيراً ما تشكّل الانبعاثات غير المباشرة عبر الموردين النسبة الأكبر من بصمة الشركة. وتبيّن الدراسات أن متوسط انبعاثات سلسلة التوريد يكون أعلى بحوالي 26 مرة من انبعاثات عمليات التشغيل المباشر. لذلك، يجب على الشركات العمل مع مورديها على تحديد تقنيات أنظف وخيارات مواد منخفضة الكربون، مثلاً عن طريق فرض معايير مستدامة في العقود أو تدريب الموردين على ترشيد استهلاك الطاقة. التعاون مع الموردين وتعزيز الشفافية في البصمة يساعد على تقليل انبعاثات النطاق 3 بشكل كبير.

·        التعويضات الكربونية (كحل ثانوي): بعد تنفيذ جميع سبل تقليل الانبعاثات الممكنة، قد تلجأ بعض الشركات لاستخدام التعويضات الكربونية (Carbon Offsets) لتعويض الانبعاثات المتبقية. لكن يجب الحذر؛ فالحل الأساسي هو تجنب ومن ثم تقليل انبعاثات الغازات أولاً، وفق تسلسل التخفيف المناخي، وبحسب المبادئ العالمية، تأتي التعويضات (مثل مشاريع التشجير أو تكنولوجيا التقاط الكربون) كخطوة أخيرة فقط بعد فشل جميع السُبل الأخرى. فالاعتماد المفرط على التعويضات دون خفض حقيقي يمكن أن ينطوي على مخاطرة تسويقية اتهام بـ”الغسل الأخضر – Greenwashing".

تنفيذ هذه الإجراءات بشكل متوازن يمكّن الشركات من تقليص بصمتها الكربونية تدريجيًا وفي نفس الوقت تحسين كفاءتها الربحية والتشغيلية.

 

أمثلة عملية لإدارة البصمة الكربونية

تُبيّن حالات واقعية لكبرى الشركات كيف يمكن لخطةٍ محكمة لإدارة البصمة الكربونية أن تحدث فرقًا كبيرًا:

·        شركة آبل (Apple): أعلنت شركة التكنولوجيا العملاقة آبل هدفًا طموحًا بأن تكون حيادية كربونية بالكامل بحلول عام 2030. ولتحقيق ذلك، استثمرت في مشاريع ضخمة للطاقة المتجددة (على سبيل المثال: تركيب محطات شمسية في منشآتها في الصين) ، بالإضافة إلى تحسين كفاءة الطاقة بانتشار الإضاءة الموفرة والتكييف الذكي. كما تعمل آبل على برامج لتعويض الانبعاثات، فشجّعت مشروعات لإعادة غرس الغابات وحماية غابات المانغروف لامتصاص الكربون. أظهرت هذه المبادرات أنه بالإمكان مزج الابتكار التقني والمبادرات الخضراء لدفع رحلة تحوّل الشركة إلى الطاقة النظيفة بشكل كامل.

·        شركة تيسكو (Tesco): كشركة تجزئة عالمية كبرى، قامت تيسكو بالانضمام إلى مبادرة RE100 والتزمت بتغطية 100% من استهلاكها الكهربائي من مصادر متجددة بحلول عام 2030. كما ركّزت الشركة على تقليل الانبعاثات ضمن سلسلة التوريد الغذائي والحد من إزالة الغابات في مورداتها بحلول 2030. إضافةً إلى ذلك، استثمرت تيسكو حوالي 700 مليون جنيه إسترليني في تحديث أنظمة التبريد والطاقة لديها، ما أسفر عن خفض انبعاثات مراكز التوزيع والمتاجر بنسبة 41%  لكل متر مربع من المساحة. هذه الجهود وفّرت على تيسكو ليس فقط خفضًا كبيرًا في الكربون بل وفرًا في فواتير الطاقة، مما يعكس الفوائد الاقتصادية المباشرة للتخفيف من البصمة.

·        شركة (Legal & General) في القطاع المالي: تبنّت شركة التأمين البريطانية Legal & General مقاربات مستدامة ضمن مبناها الرئيسي. فحازت مبنى “Calon” في كارديف على شهادة BREEAM Outstanding للتصميم الأخضر، ويعمل المبنى بطاقة شمسية داخلية ومواد بناء مستدامة ليصل إلى حالة صفر انبعاثات صافية. هذا يُظهر كيف يمكن دمج مباني العمل الخضراء في استراتيجية إدارة البصمة الكربونية.

 

تعكس هذه الأمثلة أن الشركات الرائدة تدرك أن إدارة البصمة الكربونية ليست مجرّد شعار، بل استثمار يعود بالنفع على الأداء المالي والبيئي معًا. وكما يلخص تقرير مونتيل: «إدماج خطة لخفض الكربون أمر حيوي للشركات، إذ يتيح خفض التكاليف التشغيلية وتجنب الغرامات وتحسين الالتزام التنظيمي. كما يقوي ذلك المسؤولية الاجتماعية للشركة ويعزز سمعتها، مما يجعل الشركة أكثر جاذبية للمستثمرين والعملاء المهتمين بالبيئة

 

لماذا يعد تدريب الشركات على إدارة البصمة الكربونية استثمارًا استراتيجيًا؟

التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون لا يتحقق بالنيات الطيبة أو الشعارات الخضراء، بل بالمعرفة الممنهجة والقدرات المؤسسية المدربة. إن تدريب موظفي الشركات على إدارة البصمة الكربونية لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية تُمكّن فرق العمل من فهم مصادر الانبعاثات وتحليلها ووضع خطط فعالة للتقليل منها. فوفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، الشركات التي تدرب موظفيها على الاستدامة تحقق أداء ماليًا أفضل بنسبة 18% مقارنة بمنافسيها الذين لا يفعلون ذلك .

التدريب المتخصص يمنح المؤسسات أدوات عملية لحساب الانبعاثات بدقة، استخدام معايير مثل GHG Protocol، وتصميم مبادرات لتقليل الانبعاثات في العمليات وسلاسل الإمداد. كما يساعد في إعداد تقارير الاستدامة و ESGبشكل احترافي يعزز الثقة مع المستثمرين والعملاء. ولاسيما أن هناك عددًا من الجهات المتخصصة التي تقدم برامج تدريبية احترافية في إدارة البصمة الكربونية، والاستدامة، والطاقة المتجددة، ويُعدّ معهد الحل الوحيد للتدريب والاستشارات من أبرزها، بفضل خبرته الواسعة في تصميم وتنفيذ الدورات التطبيقية التي تزوّد الشركات بالمعرفة والأدوات اللازمة لتحقيق التحول نحو ممارسات أكثر استدامة ومسؤولية بيئيًا. فالتدريب يخلق ثقافة داخلية واعية بيئيًا، تُحوّل الاستدامة من التزام خارجي إلى قناعة جماعية تعيشها فرق العمل يوميًا.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن الشركات التي تستثمر اليوم في تدريب موظفيها على إدارة البصمة الكربونية، هي ذاتها التي ستقود غدًا أسواقًا أكثر كفاءة، وأكثر احترامًا للكوكب، وأكثر استعدادًا لمتطلبات التشريعات البيئية العالمية.

...